آراءمقالات

كيف فاز ترامب؟

المصطفى ولد البو - كاتب صحفي ومترجم

لقد كان دونالد ترامب ذكيا عندما أطلق حملته المُبكرة، والتي تبين أن الهدف منها كان إضعاف التركيز على الاتهامات الجنائية التي تلاحقه من جهة ثم إلباسها لباسا سياسيا من جهة أخرى. فمع كل لائحة اتهام صدرت ضده، حصل بالتزامن معها على قاعدة حزبية وجمع معها الملايين نقدا، كل هذا في الوقت الذي كان منافسوه يواجهون بعضهم في محاولة لإخراجه من المشهد. وعلى سبيل المثال، فقد انسحب حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، الذي يمكن القول إنه الخصم الأكثر قوة وندية لترامب، ومع مطلع شهر مارس، حصل ترامب على عدد كاف من أصوات المندوبين ليصبح المرشح الجمهوري المحتمل للانتخابات الرئاسية.  

الفوز الساحق لترامب في الانتخابات التمهيدية يعود الفضل فيه إلى استراتيجية صممها مديرا حملته سوزي وايلز وكريس لاسيفيتا، عَمِلت وايلز وهي خبيرة استراتيجية مخضرمة تعيش في فلوريدا، مع ديسانتيس 2018 الساعي حينها لمنصب الحاكم، لكنهما اختلفا بعد أن أدى الأخير اليمين القانونية بفترة وجيزة، لتتولى وايلز بعدها مسؤولية الانتخابات التمهيدية لترامب مع مجموعة العمل السياسي التي تدعمه والمعروفة اختصارا بـPAC بحملة تحمل عنوان: “أنقذوا أمريكا”.  

استعانت وايلز بلاسيفيتا، وهو ناشط جمهوري متشدد، وقاما معا بصياغة استراتيجية الحملة الانتخابية، فخلصوا إلى أن شعبية “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” كانت قوية بما يكفي لضمان فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، مما منحهم الوقت للعمل على خطة مناسبة لهزيمة بايدن في نوفمبر. فركز فريق ترامب على إطلاق عملية يمكنهم من خلالها تحديد ثم تعبئة مؤيدي ترامب الذين لم يكونوا ناخبين منتظمين. 

بعدها توصلت وايلز ولاسيفيتا والمدير السياسي جيمس بلير، وتوني فابريزو المسؤول عن استطلاعات الرأي الخاصة بترامب، توصلوا إلى قناعة مفادها أن هناك ضرورة للتركيز على “النوع” في هذه الانتخابات ومحاولة تجنب تشتيت أصوات الرجال، كما حدث في عام 2020 بفوز بايدن، معتبرين بناء على استبيانات أن الرجال وخاصة الشباب، كانوا قد بدأوا يأخذون موقفا مناهضا لبايدن خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد. فركز الفريق على الناخبين الذكور الذين تقل أعمارهم عن 40 عاما. وهي مجموعة ترى أن بايدن كرجل متقدم في السن، ليس من المناسب أن يكون رئيسا. لم يحصل هؤلاء الشباب على أخبارهم من وسائل الإعلام التقليدية، وكانوا أقل اهتماما بقضايا حساسة مثل الإجهاض والتراجع في الديمقراطية، وحتى أنهم عندما تفاعلوا مع السياسة، كان ذلك في الغالب من خلال البودكاست ووسائل التواصل الاجتماعي، وكانوا ينظرون بكثير من الإعجاب إلى شخصية ترامب وجرأته في الطرح، ومع أن التركيز على فئة لا تهتم كثيرا بالسياسة في موسم سياسي، يُعتبر مخاطرة إلا أن لاسيفيتا يرد دائما بمقولة لونستون تشرشل تعود لفترة الحرب تتساءل عما إذا كان الخروج من منطقة الراحة، مغامرة تستحق المحاولة!

وبينما كان ترامب وحسب الخطة، يتابع تصويت الذكور، كان عليه أيضا تجنب فقدان أصوات النساء بهوامش أكبر مما كان عليه في عامي 2016 و2020، وهو ليس بالأمر السهل بعد أن ساعدت تعييناته في المحكمة العليا في تمهيد الطريق لحظر الإجهاض في جميع أنحاء البلاد (يعتبر ضمن ما يُطلق عليه الحقوق الإنجابية) لكنه في حملته والتزاما بتوجيه طاقمه، يؤكد على أن هذا الموضوع يعود الآن إلى الولايات وقوانينها، معلنا التركيز على قضايا الاقتصاد والهجرة والجريمة.

عندما تحدث ترامب مع مجلة تايم في أبريل 2024، كانت شعبية بايدن تتراجع وفق استطلاعات الرأي، واعتقد حينها معسكر ترامب أنهم في طريقهم إلى نصر حاسم. لقد كشف ترامب في مقابلة ثانية معنا عن أجندته لمأمورية ثانية من شأنها إعادة تشكيل أمريكا ودورها في العالم.

هذه الثقة التي ميزت حملة ترامب، تعززت بعد أداء بايدن الكارثي في مناظرة 27 يونيو. وفي 13 يوليو، نجا ترامب من محاولة اغتيال في بتلر (بنسلفانيا)، وظهر وهو يقف على قدميه ثم لوّح بقبضة يده والدماء على وجهه هذا المشهد الذي يحمل شحنة واضحة من التحدي، أثار إعجاب أنصاره بشدة. ثم أتى إعلانه عن اسم مرشحه لمنصب نائب الرئيس بعدها بأيام قليلة، كخطوة أخرى للتأكيد على الثقة والصمود. 

لكن هذه الثقة ربما تكون قد اهتزت قليلا، لأنه بعد ثلاثة أيام فقط من انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري، أعلن بايدن أنه لن يترشح لمأمورية ثانية معلنا في نفس السياق عن تأييد هاريس، التي وفي غضون أيام حشدت الكثير من الدعم للحزب الديمقراطي وأثارت حساسية فريق ترامب فعلا، خاصة بعد تجمعاتها الانتخابية الحماسية الكبيرة ونجاحها في جمع ملايين الدولارات، الأمر الذي جعل من وضعا استراتيجية حملة ترامب يسألون أنفسهم إن كان الفوز ما زال محسوما فعلا!؟.

هذا التخوف من نشاط أنصار هاريس والتهديد الذي أصبح خصمهم يشكله، أجبر وايلز ولاسيفيتا على عقد اجتماعات مكثفة في جو مشحون، في نادي ترامب للجولف في نيو جيرسي، كون هاريس مرشح أصغر سنا صعّب عليهم جذب الناخبين الذين خاب أملهم في بايدن. ومما عقّد الموقف هو أن محاولات الديمقراطيين لربط ترامب بالبرنامج المعروف بمشروع 2025 (مشروع 2025 مجموعة من مقترحات الانتقال السياسي في حالة فوز دونالد ترامب ويقول مناهضوه إن الهدف منه هو بناء سياسات سلطوية يمينية متشددة) بدأت تؤتي ثمارها حيث أشارت استطلاعات الرأي الداخلية المبكرة إلى أن هناك تحد كبير ينتظره، ووفقا لمسؤول استطلاعاته فابريزيو فإن هناك تعطشا حقيقيا للتغيير، والخطر الأكبر في نظرهم، هو السماح لهاريس بأن تصبح في أعين الناخبين – هي – هذا التغيير المنشود.

من هذه النقطة، بدأ فريق ترامب في تنفيذ جزء آخر من استراتيجيته، حيث قاموا بإلقاء اللوم على هاريس وحملوها مسؤولية فشل بايدن، واعتبروا أنها سترث العديد من نقاط الضعف نفسها، ثم ركزوا على دورها في التعاطي مع الهجرة تمهيدا لإلقاء اللوم عليها في زيادة عدد المعابر الحدودية. في الوقت نفسه، شرع ترامب التزاما بتوجيه طاقمه، في النأي بنفسه عن مشروع 2025.

بشكل خاص، توصلت الحملة إلى أن رسالة ترامب حول الإجهاض التي أشار في السابق إلى أنه تركها للولايات، لم تكن كافية بعد أن أظهرت الدراسات أن الحق في الإجهاض كان ثالث أو رابع أهم قضية في نظر الناخبين، وبعد شهور قليلة أُبلغ من أحد كبار مساعديه أن الوقت قد حان لمعالجة هذا الموضوع بشكل مباشر، وفي الأول من أكتوبر نشر ترامب على منصة “تروث سوشيال ” (تطبيق تواصل اجتماعي طوره فريق ترامب) أنه لن يدعم الحظر الوطني للإجهاض.

كانت هناك تحديات داخلية أيضا، فترامب أصبح مضطربا بشكل متزايد، وجلب حلفاء من حملاته السابقة بمن فيهم كوري ليفاندوفسكي، أحد مديري حملته لعام 2016 صاحب كتاب “دع ترامب يكون ترامب” (كتاب يتحدث عن نجاح حملة ترامب 2016)، الذي قال إن وايلز ولاسيفيتا كانا يضللانه، وفي أغسطس عقد ليفاندوفسكي اجتماعا مع ترامب نصحه فيه بإقالة قيادة حملته بالكامل، وذلك وفقا لمصدرين مطلعين على فحوى الاجتماع، ولم يقدم ترامب أي التزامات اتجاه هذا الطلب لكنه أومأ برأسه فقط، لكن سرعان ما عقد وايلز ولاسيفيتا اجتماعا مع ترامب قالوا فيه إن ليفاندوفسكي هدفه خلق حالة من الإلهاء والتشويش لإبعاد الحملة عن مسارها الصحيح.، وقالت له وايلز إن عملهم قد نجح وأي تغيير الآن سيؤدي إلى الانحراف عن الخطة المرسومة، الـأمر الذي اتفق معه ترامب. وفي رحلته التالية بالطائرة، عقد اجتماعا معهم جميعا، وكان ليفاندوفسكي حاضرا، بعد أن تم تهميشه خلال الأسابيع الأخيرة من السباق كمستشار وكان بالكاد يظهر على التلفزيون.

بدا للحملة أن زخم هاريس تصاعد حتى سبتمبر، خاصة أنها فازت في المناظرة الفردية عن طريق اصطياد أخطاء ترامب، الأمر الذي جعل أحد مسؤولي حملة ترامب يعرب عن قلقهم وتخوفهم من أن تكون فعلا خصما أقوى مما كانوا يتصورون، لكن ما هي إلا أيام معدودة حتى ساد الارتياح في أوساط الحملة، عندما أظهرت استطلاعات تعادل المرشحين، ليعود ترامب بعدها إلى الدفع في اتجاه حصد أصوات الشباب من الجنسين والناخبين الذكور، وفي هذا الصدد كلفت وايلز أليكس برويسويتز، مستشار الحزب الجمهوري البالغ من العمر 27 عاما بتزويد ترامب بقائمة من مشاهير البودكاست عبر الإنترنت لإجراء المقابلات، وفي ملعب الجولف في صباح اليوم التالي، قال برويسويتز مخاطبا ترامب: لدي قائمة من مشاهير البودكاست أردت عرضها عليك.

قاطعه ترامب قائلا: هل تحدثت عن هذا الموضوع مع بارون؟ (نجل ترامب البالغ 18 عاما).

قال بروسفيتز: لا يا سيدي

رد ترامب: اتصل ببارون وناقش معه الموضوع ثم عد إلي.

التقى برويسويتز ببارون في وقت لاحق من ذلك اليوم وعلم أنه كان مهووسا بشكل خاص بأدين روس (ناشط معروف بلقاءات مع مشاهير في بثوث مباشرة على منصات الألعاب الإلكترونية) لقد اتفقوا على أن هذا هو المكان الذي يجب أن يبدأ منه ترامب استراتيجيته المتعلقة البودكاست، وفي أغسطس ظهر ترامب على بودكاست أدين روس والذي انتشر على نطاق واسع وحقق ملايين المشاهدات وقد تميزت الأسابيع التي تلت ذلك بسلسلة من المقابلات ذات الطابع التملقي مع مشاهير بودكاست آخرين مثل لوجان بول وثيو فون وجو روغان، الأمر الذي عكس قرارا متعمدا لتجنب معظم المقابلات الإعلامية التقليدية.

بعدها اتخذ ترامب قرارا غير تقليدي من خلال اختيار روبرت ف كينيدي جونيور المنضم له حديثا والمرشح المستقل سابقا، للإشراف على سياسة الرعاية الصحية، وفي الأسابيع الأخيرة من السباق ضخ الملياردير إيلون ماسك أكثر من 100 مليون دولار في لجنة العمل السياسي الخاصة به لمساعدة ترامب في الولايات المتأرجحة، وقد وعد ماسك بقيادة “لجنة الكفاءة الحكومية” الجديدة التي ستشرف على عدد لا يحصى من الوكالات الفيدرالية التي تنظم شركاته، واستأجر الموظفين وحفزهم بدفعات للوصول إلى الناخبين، لقد “نصب خيمة” في ولاية بنسلفانيا التي ينظر إليها كلا الجانبين على أنها ولاية ساحة المعركة المحورية، ووزع شيكات بقيمة 1 مليون دولار كيناصيب للناخبين المسجلين الذين وقعوا على عريضته الداعمة لترامب، كما حول ماسك منصة إكس التي يملكها إلى مركز لنظرية المؤامرة القائلة بأن الديمقراطيين كانوا “يستوردون” المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات المتأرجحة لتغيير الخريطة الانتخابية لصالحهم وكان يردد يوميا بأنه إذا لم يفز ترامب فإن هذه الانتخابات ستكون الأخيرة.

وقبل أسبوع من يوم الاقتراع، حقق ترامب حلما طالما راوده وهو تنظيم تجمع انتخابي حاشد في ساحة ماديسون سكوير الشهيرة في مدينة نيويورك، تميز الحدث بخطاب بغيض وكراهية للأجانب وعنصرية من قبل بعض متحدثي ترامب المتحمسين، من بينهم الكوميدي توني هينشتنكليف، الذي وصف بورتوريكو بأنها جزيرة من القمامة العائمة (كان ترامب قد وصفها بالقذرة في السابق، سكانها لا يحق لهم التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ولا يدفعون الضرائب) بعدها قال جون كيلي كبير موظفي البيض الأبيض في مأمورية ترامب الأولى، إن الأخير يثني دائما على جنرالات هتلر ثم تبعه القائد السابق للأركان المشتركة بوصفه ترامب بالفاشي حتى النخاع، وبالعودة إلى تجمع ترامب الانتخابي في ماديسون سكوير، فقد أشارت استطلاعات رأي من حملة هاريس أنها قد تسهم في استمالة الناخبين لصالحهم، بكن بعدها بوقت قصير وفي تمام الساعة التاسعة مساء تقريبا، دخل ترامب منتجعه الخاص وسط ترحيب صاخب ترافقه عائلته وصديقاه المقربان إيلون ماسك ودانا وايت وقد بدأ سعيدا وهو يرى الأمور تتحسن بشكل ملحوظ لصالحه.

فريق ترامب الانتقالي مليء بالموالين مثل سكرتيرة البيت الأبيض السابقة ليندا مكماهون ورجل الأعمال هوارد لوتنيك وأبناء ترامب دونالد الابن واريك ومرشحه لنائب الرئيس فانس، هؤلاء تم تكليفهم جميعا بالحرص على أن “المؤمنين الحقيقيين” فقط هم من ينضمون إلى إدارته المنتظرة من بينهم مديره السابق لإدارة الميزانية والذي يدير مركز تجديد أمريكا، والذي كان يعمل على مسودة أوامر تنفيذية يمكن أن يوقعها ترامب في غضون الساعات الأولى من توليه الرئاسة.

ومن المتوقع أن يكون البند الأول والأكثر إثارة للجدل هو الهجرة والحدود، ففي مقابلته مع تايم، قال ترامب إنه يخطط لاستخدام السلطة التنفيذية لبدء عمليات الترحيل الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين وأنه سيعطي أوامره للحرس الوطني والهجرة والجمارك وسلطات إنفاذ القانون الفيدرالي بشن حملة مداهمات في هذا الصدد، ومن المتوقع أن يقود هذه الحملة توم هومان المسؤول السابق في إدارة ترامب في ولايته الأولى والمرتبط بمشروع 2025 المثير للجدل. 

في النهاية إن فوز ترامب لم يحدث صدفة أو بشكل عشوائي، الرجل من خلال بناء حركة اجتماعية وسياسية بسط سلطته على الحزب الجمهوري، كما هدم بشكل ممنهج العديد من المعايير القديمة والمتجذرة للأمة، مما أدى إلى ظهور مجموعة من الأتباع المستعدين لتمكين ونشر أفكاره، لم يخف ترامب أنه سيدخل مأموريته الثانية ملتزما بخلق بيئة حاكمة مع القليل من القيود على سلطته.

المصدر: مجلة تايم الأمريكية – ترجمة المصطفى ولد البو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى