لنذهب معا إلى إسرائيل.. قصة حوار عاصف بين الأسد والسادات في دمشق
لنذهب معا إلى إسرائيل.. قصة حوار عاصف بين الأسد والسادات في دمشق
لنذهب معا إلى إسرائيل.. قصة حوار عاصف بين الأسد والسادات في دمشق
“اسمع يا أخ حافظ.. لو ثبت أن هذه آخر مهمة أقوم بها كرئيس جمهورية (زيارة القدس) فسوف أقوم بها وأعود لأقدم استقالتي إلى مجلس الشعب في مصر كما ينص الدستور، فأنا مقتنع 100% بإتمام هذه المبادرة”.
“أنا لم آت إلى دمشق كي أتشاجر معك، فلنذهب معا إلى القدس أو إذا لم تكن تستطيع المجيء فأرجوك أن تلتزم الصمت ولا تجابهني بالاستنكار والإدانة، وإذا فشلت فسوف أعترف بأنني كنت مخطئا، وسأقول لشعبي أن يعطيك زمام القيادة”.
لـ7 ساعات كاملة دار حوار حاد على هذه الشاكلة بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات (1918-1981) ومضيفه في دمشق الرئيس الراحل حافظ الأسد (1930-2000) يومي 16 و17 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، أي قبل يومين من زيارة السادات الشهيرة إلى القدس.
نقل الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل تفاصيل هذا اللقاء في كتابه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. عواصف الحرب وعواصف السلام” (منشورات دار الشروق المصرية 1996- ص 364-367)، وكانت محصلة حوار مطول أجراه مع الرئيس الأسد، كما جاءت بعض مجرياته في مذكرات الرئيس الراحل أنور السادات “البحث عن الذات” ومصادر وشهادات أخرى.
شكّل هذا اللقاء -بما قبله وما بعده- نقطة مفصلية في الصراع العربي الإسرائيلي وفي العلاقات السورية المصرية، والمصرية الإسرائيلية لاحقا.
عاد السادات إلى مصر وقد بدأت ضده حملة إعلامية سورية شرسة لم تثنه عن زيارته الشهيرة للقدس (19-21 نوفمبر/تشرين الثاني 1977)، تلك الزيارة التي شبهها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر (تولى المنصب من 1977 إلى 1981) حقيقة أو مبالغة بنزول أول إنسان على سطح القمر.
ما قبل القفزة الكبرى
قبل أشهر كان الرئيس الراحل أنور السادات قد وطّن نفسه على القيام بقفزة كبرى تجاه إسرائيل، بدأ يتمثّل مقولة وزير الخارجية الأميركي العتيد هنري كيسنجر (1973-1977) “إن 99% من الصراع العربي الإسرائيلي نفسي”، وكان لا بد -من وجهة نظره- أن يتم كسر هذا الحاجز النفسي أو محاولة القيام بذلك، بما سماها هو ومؤيدوه لاحقا “خطوة جريئة للسلام”، وما أطلق عليه معارضوه “قفزة بهلوانية في الهواء”.
لم يكن من الوارد أن يخبر السادات رفيقه في حرب أكتوبر حافظ الأسد -أو غيره- بهذه الخطوة قبل أوانها، بالإضافة إلى أن قلة من مساعديه كانوا يعلمون ما يخطط له، كان أحدهم وزير الخارجية إسماعيل فهمي.
لطالما انتقد الرئيس الراحل مدى “حدة هؤلاء البعثيين ونشافة رأسهم”، خاصة بعد الحملة الإعلامية التي شنتها سوريا واتهامات “الخيانة” التي أزعجته بعد قراره بوقف إطلاق النار من جانب واحد خلال حرب 1973، وكان أيضا يريد أن يصبح “بطل الحرب والسلام” الأوحد ولا ينافسه في هذا المسرح أحد.
ورغم التنسيق الظاهر خلال الحرب فإن العلاقات بين دمشق والقاهرة لم تشفَ نهائيا من جروح الانفصال الغائرة (انقلاب 1961)، وكانت الشكوك قديمة وعميقة لدى القيادة المصرية في حزب البعث الحاكم بأجنحته وخلافاته وصراعاته، فيما كانت دمشق محتارة من خطوات أحادية غير مفهومة ومن معلومات متناثرة عن مسار سري مواز يتبعه الرئيس السادات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
في لحظة ما بددت الكثير من هذه الشكوك علاقات ثنائية نسجت بين الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات قبل حرب أكتوبر. بدا التنسيق متينا في الأيام الأولى من المعارك، لكن شرخا عميقا وقع بعد إحجام الرئيس الراحل السادات عن تنفيذ الخطة العسكرية المتفق عليها بالوصول إلى خط المضائق في شبه جزيرة سيناء وما سميت الوقفة التعبوية خلال المعركة (10-13 أكتوبر/تشرين الأول).
وامتد هذا الخلاف واستعر بعد اتفاق وقف إطلاق النار واتفاقية فك الاشتباك، ثم بعدها مؤتمر جنيف (ديسمبر/كانون الأول 1973) الذي لم تحضره سوريا، وما بدا أنه توجه من الرئيس السادات للانفراد بخيوط الحرب والسلام.
وفي فترة ما قبل الزيارة تحسنت العلاقات ظاهريا إلى حد إعلان قيادة مشتركة بين البلدين في الخامس من فبراير/شباط 1977 “تمهيدا للوحدة الشاملة”، وضمت الرئيسين و8 من كبار المسؤولين، لكن أسباب الخلاف بقيت غائرة في القلوب.
في القاعة المغلقة بقصر المهاجرين في دمشق استمر النقاش الغاضب بين الرجلين لمدة 7 ساعات كما وصفه إسماعيل فهمي في كتابه “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط” (الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، ص 409).
تناهت إلى أسماع من هم خارجها من الوفدين الأصوات المرتفعة دون تحفّظ أحيانا، وكان الجميع ينتظر نتائج هذا اللقاء الذي لم يكن أبدا كغيره من الاجتماعات الودية التي كانت تجلجل فيها الضحكة الشهيرة للرئيس الراحل أنور السادات.
بانت علامات الضيق على وجه حافظ الأسد رغم محاولاته إخفاءها، وقال للسادات “من سيضمن لك أن بيغن -(مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك 1977-1983)- سيرجع لك الأراضي العربية المحتلة من دون قيد ولا شرط؟، وما الذي يؤكد لك أن الإسرائيليين سيقبلون بالسلام الذي ستعرضه عليهم؟”.
بهزات رأس متتابعة وهادئة بدا السادات متفهما لهواجس الرئيس السوري وأجابه “شوف يا أخ حافظ، للأمانة لا أستطيع أن أقول لك إن عندي أي ضمانات، لكنني جسست النبض وأحسست أنهم على استعداد للقبول بمبادرة السلام وإعادة الأراضي التي احتلوها عام 1967”.
زلة اللسان الفارقة
كان الرئيس الراحل قد لقي تشجيعا من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر (100 عام) للقيام بخطوة نوعية تجاه إسرائيل لإحلال السلام، لكنه لم يحصل بالمقابل على أي ضمانات إسرائيلية أو حتى أميركية، ولم تكن إدارة الرئيس جيمي كارتر نفسها -التي خلفت إدارة جيرالد فورد (1974-1977)- تعلم بفكرة الزيارة وما يجري من لقاءات سرية مصرية إسرائيلية.
لم يبلغ الشطط بانتظارات الإسرائيليين أن يروا السادات في القدس باحثا عن السلام واندهشوا من قرار الزيارة، ولم يصدقوا حتى عندما حطت طائرته في مطار بن غوريون، وتأهبوا -مبالغة- لنزول فرقة مصرية تقضي على القيادات الإسرائيلية وهي مجتمعة لاستقبال السادات كما ذكر بعضهم في مذكراتهم.
وقبل ذلك بـ10 أيام كان المصريون أنفسهم أكثر دهشة وذهولا من مضمون خطابه الشهير في مجلس الشعب يوم التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1977، وبدا ما قاله كجملة اعتراضية أقرب إلى زلة اللسان كما ظن الجميع، وما ذكره هو بنفسه وقتها.
يروي وزير الخارجية المصري الأسبق إسماعيل فهمي في مذكراته “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط” (الطبعة الأولى باللغة العربية 1985، ص 397) أن السادات كان من المفترض أن يلقي خطابا مكتوبا في المجلس، لكنه بدأ يرتجل قائلا “ستدهش إسرائيل عنما تسمعني أقول الآن أمامكم إني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم..”.
وللمفارقة، كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (1929-2004) رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك حاضرا خلال الجلسة، فقد ألح عليه السادات قبل يوم للحضور وأرسل له طائرة خاصة أقلته من ليبيا إلى القاهرة.
التفت عرفات إلى إسماعيل فهمي مصدوما وسأله بدهشة ممزوجة بالغضب “ما معنى هذا الكلام؟ هل تعمد السادات قول ذلك في حضوري؟ هل دعوتموني إلى القاهرة لأسمع هذا الكلام؟” فأجابه فهمي -ولم يكن متأكدا تماما مما يحصل- “إنها زلة لسان”.
ويورد الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”(ص 360) أن عرفات أصبح في حالة عصبية شديدة، وأنه غادر مباشرة إلى المطار غير مرتاح لما حصل وهو يردد “إن الرجل ألبسني العمامة وأنا جالس أمامه”.
كان تفسير الكثيرين في المجلس ممن صفقوا لكلام السادات أن تلك ليست سوى بلاغة زائدة ممزوجة بالحماسة اعتادوا عليها في خطابات الرئيس واستطراداته، وهو الرجل الخطيب الذي لا تنقصه الفصاحة أو هي مجرد كلام مرسل هدفه إحراج إسرائيل.
لم يكن وزير الخارجية إسماعيل فهمي مندهشا، فقد ناقشه السادات في أمر زيارة إسرائيل قبل أيام، وبدا وزير الحربية الفريق محمد عبد الغني الجمسي أيضا أقل دهشة من الجميع.
التفت الجمسي إلى فهمي قائلا “لقد أعادها مرة ثانية”، وتذكر الاثنان اجتماع مجلس الأمن القومي يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني بُعيد عودة السادات من جولة قادته إلى السعودية وإيران (في عهد الشاه محمد رضا بهلوي) ورومانيا (كان يحكمها نيكولاي تشاوشيسكو) حين قال “إني مستعد للذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب في الكنيست لو كان في هذا إنقاذ لدم أبنائي”، ليسود بعدها صمت مشوب بالدهشة بين المجتمعين.
يذكر فهمي -الذي استقال من وزارة الخارجية قبل زيارة القدس وحل محله بطرس غالي– في مذكراته (ص 398) أن المشير الجمسي انتفض على غير عادته في اجتماع مجلس الأمن القومي ورفع يديه فجأة وصرخ قائلا “الكنيست.. كلا.. الكنيست كلا، هذا غير ضروري”.
وأشار فهمي إلى أن الرئيس السادات ناداه خلال فترة الاستراحة صارخا “هذه زلة لسان، أرجو يا إسماعيل أن تمنعها الرقابة منعا باتا”.
كانت هذه الجملة التي قالها السادات في اجتماع مجلس الأمن القومي جس نبض ورددها في خطابه الشهير أمام أعضاء مجلس الشعب وياسر عرفات فارقة في التاريخ العربي المعاصر وفي الصراع العربي الإسرائيلي، لم تكن زلة لسان بقدر ما كانت محصلة تفكير عميق من الرئيس الراحل.
كانت أيضا تتويجا للقاءات سرية تمت مع إسرائيل، أبرزها في سبتمبر/أيلول 1977 حين اجتمع مستشار الرئيس السادات حسن التهامي في الرباط مع وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان، في وقت كانت تُجرى فيه المشاورات والتحضيرات العلنية لعقد مؤتمر جنيف للسلام أواخر ذلك العام برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وتحت إشراف الأمم المتحدة.
سأذهب وأقابلهم بنفسي
يرى كثيرون من مسؤولي وأقطاب تلك المرحلة أن فكرة الزيارة كانت محصلة المسار الذي بدأ بالرسالة الشهيرة التي نقلت إلى هنري كيسنجر عن طريق القناة السرية عبر مستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1973، أي بعد ساعات من بدء الحرب والاندفاع الكاسح للقوات المصرية والسورية.
وجاء في هذه الرسالة “إننا لا ننوي تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة”، ويرجح أن كيسنجر نقلها مباشرة إلى غولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل من 1969 إلى 1974).
واعتبر المشير الجمسي في تصريحات ومقابلات أن تلك الرسالة كانت خطيئة وتسريبا خطيرا لأسرار عسكرية ساعدت إسرائيل في تغيير نتائج الحرب.
في كتاب مذكراته “البحث عن الذات” (ص 321-322) يؤكد الرئيس الراحل أن فكرة الذهاب إلى القدس اختمرت في ذهنه بعد لقائه في بوخارست الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو (تولى المنصب من 1974إلى 1989)، مشيرا إلى أن تشاوشيسكو أكد له أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن “رجل قوي وجاد ومصمم بجدية على إتمام معاهدة سلام مع مصر” وسيقدر مثل هذه المبادرة.
يروي موشيه ديان (وزير خارجية إسرائيل من 1977 إلى 1979) في مذكراته بعنوان “الاختراق” الصادرة بلندن عن دار “وينفيلد آند نيكلسون” (Winfield & Nickelson) (ص 86) أنه -كغيره من القادة الإسرائيليين- انتابته الدهشة من خطوة السادات تلك، وذكر أنه بادر الرئيس الراحل بالسؤال الذي يلح عليه خلال اجتماع في الإسماعيلية يوم الرابع من يونيو/حزيران 1979 “يا سيادة الرئيس، لماذا أتيت إلى القدس؟”.
كانت إجابة السادات طويلة ومغرقة في التفاصيل، لكنه قال -وفق رواية ديان- “لقد اتخذت قراري عندما كنت فوق تركيا في طريقي من بوخارست إلى طهران، كنت أبحث عن شيء يحدث موجات صدمة (Shock Wave)، قلت لنفسي: حسنا سوف أذهب بنفسي وأتقابل معهم، أنا وإسرائيل”.
فرقاء السلاح
في دمشق كان الرئيس الأسد في حالة غضب وحيرة، اعتبر في بداية الأمر أن خطاب رفيقه في السلاح مجرد إفراط في البلاغة يحذقها السادات، لكنه أدرك في الوقت نفسه من واقع معرفته بالرجل أنه لا يقول إلا ما يفكر فيه بعمق، فبادر بالاتصال به مستفسرا ومذكرا إياه باتفاق سابق على زيارة إلى اللاذقية.
يذكر الرئيس السادات في “البحث عن الذات” (ص 232-233) أن هذا الاتصال حصل قبيل إلقاء خطابه بمجلس الشعب، مضيفا أنه أجاب الأسد أنه قادم على الفور، ووصل دمشق فعلا يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث اجتمعا في قصر المهاجرين.
بادر الأسد ضيفه بالسؤال “هل تعني ما قلته في خطابك بالنسبة لزيارة القدس؟” فأجاب السادات واثقا: أنا لا أقول شيئا لا أعنيه، “واستمرت المناقشات متوترة لمدة 4 ساعات كاملة، لم يقنعني فيها ولم أقنعه”، كما يقول السادات في مذكراته.
لم يتعمق الرئيس الراحل في ذكر طبيعة الحوار وتفاصيله، لكنه أكد في المؤتمر الصحفي قبيل رجوعه إلى مصر -والذي لم يحضره الرئيس الأسد على الخلاف في الرؤى- والذي وصل إلى حد الشقاق.
وُصف اللقاء في الروايات الأخرى بكونه كان متوترا ومتشنجا أكثر من اللازم، كان السادات قد اتخذ قراره النهائي، فيما حاول الأسد عبثا ثنيه عن الزيارة أو دفعه إلى إعادة التفكير، وتحول ضيقه تدريجيا إلى غيظ انعكس على نبرات صوته وكلماته التي أضحت أقل دبلوماسية وأكثر قسوة.
قال الأسد لضيفه “إن هذه الزيارة ستكون أخطر نكسة في التاريخ العربي، مجرد الذهاب إلى إسرائيل في حد ذاته إشارة تعطي معنى الاستسلام، خصوصا أنه يتم دون أي تأكيدات أو ضمانات، وأخشى أن تكون النصيحة أميركية”، فرد الرئيس السادات أن الفكرة هي فكرته وأن واشنطن نفسها ستتفاجأ بها.
استيقظت الشكوك والهواجس والخلافات القديمة بين الرجلين دفعة واحدة، وانعكست على لغة الحوار الذي بدا عقيما، قال الأسد “أخشى أن يكون هناك من سيدفع بها إلى من وصف الاستسلام إلى وضع الخيانة، وهذا أمر لا أرضاه لرفيقي وشريكي في حرب أكتوبر”.
انعكست حدة الكلمات على تقاسيم السادات المتشنجة بطبعها، وارتفع صوته غاضبا “من الذين يستطيعون أن يتهموني بالخيانة، هؤلاء الأقزام الذين لم يحاربوا واكتفوا بإلقاء الخطب؟”، ثم أضاف “الناس تعبوا من الحرب يا حافظ، وأنا أيضا تعبت مثلهم”.
بقطع النظر عن الاتصالات السرية مع هنري كيسنجر -قبل أن يخلفه سيروس فانس بوزارة الخارجية أوائل عام 1977- والمبادرة التي طبخت عبر القنوات السرية، كانت هناك فعلا أسباب أخلاقية وإنسانية من هذا القبيل تلح على السادات ودفعته إلى قراره كما ذكر العديد من مساعديه في مذكراتهم.
كان يؤمن بأن 99% من أوراق الحل بيد الولايات المتحدة و”الساحر” كيسنجر، لذلك كانت فكرته عن “كون حرب أكتوبر هي آخر الحروب” حاضرة بقوة حتى أثناء الانتصار غير المسبوق للقوات المصرية والسورية في الأيام الأولى للحرب.
الشر الذي ملأ الدار
حاول الأسد تذكير ضيفه بتلك الانتصارات في أكتوبر، وأن الوضع العسكري والسياسي ليس سيئا، وأن كفاح الأمم طويل، وتحدث عن ضرورة الصمود والمصالح القومية العليا، لكن السادات أجاب بما يشبه التعريض “هذا هو الكلام الذي عطلنا عن العصر سنوات طويلة”، وتحول الحديث إلى عتاب ولوم قاس استحضرا فيه كل الخلافات السابقة.
قال الأسد لضيفه بعد أن بلغ غضبه مداه “إن ما سيقوم به هو استهتار وخفة”، ورد السادات بأنه لا يريد مشادة معه قائلا: “إذا كنت على استعداد لتعطيني الإذن للحديث باسم سوريا أيضا كان بها، وإلا يا دار ما دخلك شر”، فأجاب الأسد وقد بلغ غيظه منتهاه “ما الشر الذي دخل وملأ الدار كلها؟”، قبل أن يفترقا وفي داخل كل منهما الكثير من الغضب والغيظ.
مرت الليلة ثقيلة على الرئيس الراحل أنور السادات في مقره بقصر الضيافة في دمشق، راح يقلب في ذهنه النقاش الموتور الذي دار مع الأسد، لم يكن على أي حال ينتظر غير ما حصل، لكنه ارتاح لكونه أبلغ الرئيس السوري ما عزم عليه بشكل مباشر، أكثر ما كان يلح عليه الآن هو تفاصيل الزيارة التي حدد لها يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني وترتيباتها.
لم تكن تلك اللحظات أقل ثقلا على الرئيس الأسد، تمنى لو لم يحمل إليه السادات ما حمل، ودعا إلى اجتماع عاجل للقيادة أحاطهم فيه بفحوى لقائه مع الرئيس المصري وما دار بينهما، وطلب المشورة في هذا الأمر الجلل، وتعالت الأصوات منددة ومستنكرة مدفوعة بالمفاجأة أو مجاراة لتقاليد الاجتماعات التي غالبا ما تطغى فيها الحماسة والمزايدات التي تسجل لأصحابها.
ارتفع صوت يطالب بثني السادات عن السفر ومنعه بالقوة من الذهاب إلى إسرائيل أو احتجازه “اعتقله يا سيادة الرئيس خدمة للمصالح القومية العليا ودرءا لهذه الفضيحة”، ولاقت الفكرة ترحيبا من بعض المجتمعين.
فكر الرئيس في الأمر لبرهة، لكنه سرعان ما استبعده، فلا أحد يمكنه احتجاز رئيس دولة أخرى مهما كانت الأسباب لأنها ستعتبر إساءة إلى دولة شقيقة، وإن حصل فسيكون “الفضيحة العربية بعينها”.
ينقل الكاتب والصحفي البريطاني باتريك سيل عن عضو المكتب السياسي في حزب الكتائب اللبناني آنذاك كريم بقرادوني في كتابه “السلام المفقود” أن الرئيس الأسد تحت تأثير الإحباط فكر فعلا في هذا الاقتراح الذي عرضه بعض كبار مساعديه في الاجتماع، لكنه استبعده تماما للأسباب المذكورة، وقرر أن يودع السادات صباحا بما يليق به كضيف ورئيس دولة.
ويؤكد سيل في مجموعة شهادات أوردها في كتابه “الأسد.. الصراع على الشرق الأوسط الطبعة الـ12 (ص 440-442) أن “تلك الليلة الطويلة المريرة كانت ذروة 4 أعوام من النفور المتزايد بين الرجلين، والذي كانت جذوره كامنة في خيبات الأمل من مجريات حرب أكتوبر”.
بشكل ما لم تكن ردود الفعل في القاهرة مختلفة لدى القلة التي عرفوا بخطة الزيارة، ويروي إسماعيل فهمي (مصدر سابق ص 390-391) أنه حين عرض فكرة السادات لزيارة القدس على مدير مكتبه أسامة الباز (أصبح لاحقا مستشارا للسادات وشارك في مفاوضات كامب ديفيد) انفجر قائلا “هذا جنون، لا شك أن الرجل غير متزن، لا بد من منع ذهابه إلى القدس حتى ولو استعملنا القوة”، ولم يختلف اعتراض الدكتور محمد البرادعي -الذي كان آنذاك مستشارا قانونيا بالوزارة- عن هذا السياق، كما ذكر فهمي.
مساء يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني وفي الطريق إلى مطار دمشق ران صمت خانق بين الأسد والسادات وهما في السيارة التي كانت تطوي الطريق التي بدت لكليهما أطول من اللازم، فكر الأسد في هذه الخطوة المفاجأة التي يعتزمها السادات والتي ستقلب المنطقة رأسا على عقب، وفكر السادات كيف سيكون استقباله من القيادة الإسرائيلية، وكيف ستقلب زيارته أيضا الدنيا وسيصبح فيها حديث العالم بلا منازع.
كان كل منهما يريد أن يتخلص بسرعة من هذا الموقف الذي لا طائل منه، قطع الصمت الثقيل سؤال من الرئيس الأسد لضيفه عن موقف الدول العربية والشعب المصري، فأجابه السادات بأن معظم القادة العرب يدعمونه في السر، أما الشعب المصري “فكلهم معه ويؤيدونه 100% من أجل السلام ولو ذهب إلى آخر العالم”.
لم يكن الوضع يحتمل أكثر من ذلك، فقد كان الرئيس السادات قد حصل على دعوة إسرائيلية وحدد فعلا موعد زيارته للقدس في مؤتمر صحفي بدمشق.
اكتفى الأسد بإيصال ضيفه إلى بهو المطار دون أن يودعه على باب الطائرة كما يقتضي البروتوكول، زاد معدل السكر في دمه وارتفع ضغطه، فتداعى على مقعد قريب محاولا التحكم في جسمه وأعصابه.
طار الرئيس السادات إلى الإسماعيلية، وبعد يومين في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977 طار مجددا إلى القدس محفوفا بأكثر من 80 صحفيا ومراسلا، لكن دون وزير خارجيته إسماعيل فهمي الذي استقال. أحدث”موجة الصدمة” التي أرادها، وكانت مجرياتها ومفاعيلها اللاحقة أكثر مما توقعه بكثير.